الحزب الجديد.. هل نحتاجه حقًا؟
منوعات _ الأحداث نيوز _ وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي _ منذ الاستقلال في عام 1956، ظلّت التجربة السياسية السودانية تدور في حلقة مفرغة من الأزمات والانقسامات. لم يكن الخلل في غياب الأحزاب، بل في عجزها عن تجديد مفاهيم العمل السياسي، وعجزها الأكبر عن بناء مشروع وطني جامع. تنوّعت المسميات وتعدّدت الكيانات، لكن الكثير منها بقي أسير الأجندات الضيقة، وواجهة لصراعات نُخب عاجزة عن التقدّم خطوة نحو التغيير الحقيقي.
في هذا السياق، لا يبدو كافيًا الإعلان عن تأسيس حزب جديد مثل “حزب الكرامة” لتجاوز هذا الانسداد السياسي، ما لم يُبنَ هذا التأسيس على وعي عميق بدور الحزب ووظيفته في هذا الزمن المعقّد. من يُمثّل الحزب؟ ماذا يقدّم؟ وكيف يسهم في إعادة تعريف الدولة والمجتمع؟ هذه هي الأسئلة الجوهرية، لا مجرد الاسم أو التوقيت.
رئيس تحرير صحيفة “المجهر السياسي”، الهندي عز الدين، عبّر عن تحفّظه على اسم “الكرامة” في منشور عبر منصة “إكس”، مشيرًا إلى ارتباطه الوجداني بمعركة عسكرية خاضها الشعب السوداني، لكنها لا تشكّل إطارًا سياسيًا يمكن البناء عليه لمشروع طويل الأمد. ورغم أن ملاحظته لم تُفصّل جوهر الفكرة، إلا أنها فتحت الباب أمام نقاشٍ أعمق نسعى هنا لتناوله بعيدًا عن الأشخاص والنوايا.
سؤال اللحظة: هل نحتاج إلى “حزب جديد” أم إلى “فكرة جديدة”؟
في واقع سياسي مرتبك وممزق بالولاءات، تغيب الرؤية وتُستبدل الممارسة الديمقراطية بمنطق المكايدة والصفقات. لقد تحوّل كثير من الأحزاب، القديمة والجديدة، إلى أدوات لتكريس المصالح الضيقة، لا أدوات لصياغة الإرادة الجماعية أو تطوير الدولة.
المشكلة ليست في كثرة الأحزاب، بل في غياب الأحزاب ذات الهوية والرؤية والبرنامج. فالكثير منها يتأسس من رحم الطموحات الشخصية أو ردة الفعل السياسية، لا من مشروع وطني يعكس تطلّعات الناس، ويترجم مطالبهم إلى سياسات واقعية.
إنّ تأسيس حزب حقيقي اليوم لا يعني فقط اختيار اسم جاذب أو شعار طموح، بل يعني أولًا إعادة تعريف الحزب بوصفه أداة ديمقراطية لبناء مؤسسات تعبّر عن هموم المواطنين، وتصنع التغيير انطلاقًا من برامج سياسية واقتصادية واضحة.
لا حاجة لزعيم ملهم.. بل برنامج واقعي
لم يعد المواطن السوداني يبحث عن زعيم ملهم أو خطاب عاطفي، بل عن كيان سياسي يمتلك رؤية واضحة تعالج مشكلات المعيشة، الخدمات، الأمن، والعدالة الاجتماعية. التجارب الإقليمية تقدّم نماذج ناجحة، كحزب العدالة والتنمية في تركيا، الذي انطلق من برنامج إصلاحي فعلي لا من خطاب تعبوي، أو تجربة الجبهة الوطنية في رواندا، التي انتقلت بالبلاد من مأساة الإبادة الجماعية إلى نهضة تنموية كبرى.
ما أثبتته هذه التجارب أن النجاح لا يُبنى على الزعامة الفردية أو الهياكل الفارغة، بل على التخطيط والبرامج والعمل الجماعي المنظم.
المطلوب: اندماج عقلاني لا تفريخ فوضوي
الساحة السياسية السودانية لا تحتاج إلى مزيد من اللافتات الحزبية، بل إلى ثلاثة أو أربعة كيانات قوية ومتماسكة، تعبّر عن التيارات الكبرى (الإسلامي، الليبرالي، القومي، اليساري)، وتضم داخلها الحركات والتيارات الصغرى وفق برامج واضحة لا تحالفات انتهازية.
العقبة الأكبر في طريق تطور الأحزاب السودانية تبقى في استمرار الارتهان لنموذج “الزعيم الأوحد”، الذي يُختزل فيه العمل السياسي في شخص واحد، غالبًا مرتبط برمز تقليدي أو مرجعية تاريخية. هذا النموذج تجاوزه الزمن، ولم يعد ملائمًا لواقع معقّد يحتاج إلى قيادة جماعية مؤسسية.
القيادة الجماعية ليست فقط أكثر ديمقراطية، بل أكثر قدرة على مواجهة الأزمات، وصناعة حلول قابلة للتنفيذ، وتحصين القرار السياسي من التأثيرات الخارجية.
الخلاصة
من وجه الحقيقة، فإن المطلوب اليوم ليس “حزبًا جديدًا” بالاسم، بل مشروعًا سياسيًا حقيقيًا يُعيد تعريف جوهر العمل الحزبي بوصفه منصة لبناء دولة المواطنة والعدالة، لا مجرد أداة للوصول إلى السلطة.
الحزب الذي لا يتجاوز منطق الزعامة والشللية، ولا يطرح برنامجًا متكاملاً وواقعيًا، سيبقى عبئًا إضافيًا على المشهد الوطني، وليس أداةً للتغيير المنشود.
بدون هذا التغيير الجوهري في الفهم والممارسة، ستبقى الأحزاب السودانية تدور في حلقة التخبط والتجزئة، وسيبقى حلم الدولة العادلة والفاعلة بعيد المنال.
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 11 يونيو 2025م