الفاشر تعيد ترتيب الأوراق في مسار الحرب السودانية
بقلم: إبراهيم شقلاوي
منوعات – الاحداث نيوز – تعكس المستجدات الجارية في مدينة الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور، تحولات نوعية في مسار الحرب الدائرة في السودان، حيث تظهر تداعيات واضحة على التوازنات الداخلية وعلى مواقف الفاعلين الدوليين. فمع التدهور المتسارع للأوضاع الإنسانية منذ اندلاع النزاع في أبريل 2023، وتزايد التفاعلات الإقليمية والدولية التي تهدف إما إلى تطويق الأزمة أو تحقيق مكاسب سياسية، تبرز مؤشرات على دخول السودان مرحلة مفصلية قد تعيد تشكيل معادلات الصراع، أو تكشف حدود التزام الأطراف بخيارات التسوية السياسية.
لأكثر من عام، تخضع مدينة الفاشر لحصار خانق تفرضه ميليشيا الدعم السريع، في محاولة للإطاحة بأهم معاقل الجيش السوداني في دارفور، تمهيدًا لإعلان الحكومة الموازية في نيروبي خلال فبراير الماضي. هذا الحصار أدى إلى ندرة الغذاء، وانهيار النظام الصحي، ونقص حاد في مياه الشرب، وسط موجات نزوح جماعي من الأحياء والمخيمات المحيطة، مثل مخيم أبو شوك، مع تدهور تدريجي لمراكز الإيواء.
على الصعيد الدولي، تبنت الأمم المتحدة موقفًا أكثر حزمًا من خلال قرار مجلس الأمن رقم 2736 في يونيو 2024، الذي طالب ميليشيا الدعم السريع بإنهاء الحصار وسحب مقاتليها من الفاشر، وهو أول اعتراف دولي رسمي بخطورة الوضع، وفتح الباب أمام احتمالات اتخاذ إجراءات إضافية إذا استمر التعنت.
تشهد المدينة انهيارًا شبه كامل لمنظومة الحياة اليومية، ففي ظل القصف المدفعي وارتفاع أسعار السلع إلى مستويات فلكية، صار الغذاء نادرًا، وتحولت التكايا الخيرية إلى محطات يومية للبقاء، إذ وصل سعر الوجبة المجانية سابقًا إلى ألف جنيه، وفقًا لتقارير محلية.
وسط هذا المشهد الكارثي، برز تحرك أممي يوم الأحد الماضي، تمثل في اتصال هاتفي بين الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ورئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، حيث أكد الأخير التزامه بتشكيل حكومة مستقلة، ودعم تعيين الدكتور كامل إدريس رئيسًا للوزراء. وقد دعا غوتيريش إلى إعلان هدنة إنسانية لمدة أسبوع في الفاشر، وهو المقترح الذي وافق عليه مجلس السيادة، مما منح المجال لتحرك المنظمات الإنسانية.
إلا أن ميليشيا الدعم السريع رفضت الهدنة، واصفة إياها بـ”ذريعة لإدخال ذخائر”، متهمة الجيش باستخدام المدنيين كدروع بشرية، بينما أكدت أن العمل الإنساني يتم عبر ذراعها المعروفة بـ”قوات تأسيس”. هذا الرفض يعكس عدم اكتراث الميليشيا بالمأساة الإنسانية ويبرز سياسة الأرض المحروقة التي تعتمدها، والتي تتضمن محاربة المدنيين وتشريدهم وعرقلة المساعدات.
على الصعيد السياسي، شهدت الساحة مؤشرات متباينة: فالمملكة العربية السعودية أعلنت في اجتماع المجموعة الاستشارية ببروكسل التزامها بإحياء منبر جدة ودعت إلى وقف الحرب ومنع التدخلات الخارجية. في المقابل، أشار مستشار الدعم السريع عز الدين الصافي إلى استعداد مبدئي للحوار بشروط وضمانات واضحة. في حين تكشف تسريبات عن مفاوضات خلف الكواليس بين السودان والإمارات، عالقة بسبب خلافات عميقة حول مشاركة الميليشيات في الحكم.
أما على الصعيد الإنساني، فقد شهدت دارفور أمس الأول هبوط طائرة مساعدات ضمن جسر جوي أوروبي، مؤشرًا لبداية مسار إغاثي جديد قد يغير الواقع، خصوصًا إذا توسع الجسر إلى مناطق أخرى أو تحول إلى ممر مستدام تحت إشراف أممي.
تُظهر الوقائع أن جميع الأطراف، بما فيها الأمم المتحدة، تعيد تقييم مواقفها في ظل مأزق استراتيجي يرافقه استنزاف عسكري للطرفين وتدهور إنساني كارثي. يتمسك الجيش بالسلطة المركزية، بينما تسعى ميليشيا الدعم السريع لفرض شرعيتها ميدانيًا عبر السيطرة على الفاشر. وتشكل الجهود الأممية وتشكيل حكومة مدنية مستقلة فرصة أخيرة لحل سياسي، بشرط ضمان وقف إطلاق النار، وحماية سيادة السودان، ووجود وساطة محايدة تدعم الانتقال واستعادة الأمن.
في ضوء هذه التطورات، قد تمثل تحركات الأمم المتحدة في الفاشر وتصاعد المواقف الدولية نقطة انطلاق نحو مشهد جديد يحمل عنوان “استعادة الأمن والسلام”، شرط توفر إرادة سودانية تتجاوز الحسابات العسكرية، وتضع معاناة المدنيين في المقام الأول. كما يتطلب الأمر وقف الدعم الإقليمي للميليشيا، والاستفادة الفعلية من الممرات الإنسانية التي أعلن عنها السودان عبر مندوبه الدائم لدى الأمم المتحدة، السفير الحارث إدريس.
فالفاشر اليوم ليست مجرد ساحة قتال، بل اختبار حقيقي لإرادة السلام.
دمتم بخير وعافية
الأحد 29 يونيو 2025م

التعليقات مغلقة.